عن إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية
اجتمع في ديسمبر/كانون الثاني 2016، في مراكش ثلاثمئة شخصية إسلامية من مختلف المذاهب، بحضور ممثلين عن أتباع الأقليات الدينية في العالم الإسلامي. وصدر عن اللقاء المهم وثيقة تاريخية ضرورية جداً أطلق عليها اسم "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي". لم يتزامن اللقاء فقط مع حالة المعاناة والإزالة الخطيرة التي تتعرّض لها الأقليات الدينية في العالم الإسلامي اليوم، بل وجاء نوعاً من الاحتفال بذكرى صناعة الوثيقة التاريخية المهمة جداً في تاريخ الإسلام، والمعروفة باسم "وثيقة المدينة"، إذ حاول المجتمعون أن يخطوا إعلان مراكش على قاعدة تلك الوثيقة، وأتيح لي بسرور أن أطلع على نص الإعلان.
في السطور التالية خواطر مبدئية، طرأت على ذهني في أثناء استمتاعي بقراءة إعلان مراكش الثمين، كقارئ ينتمي لأحد تلك الأقليات الدينية (المسيحية المشرقية) في العالم الإسلامي-العربي. أول خاطرة تتعلق بالإهمال وعدم الاكتراث الفاضحيْن والمذهليْن وغير المفهومين إطلاقاً الذي لقيه ذلك الإعلان في أوساط العالم العربي الإعلامية بأنواعها وأشكالها كافة. بالكاد تحدثت أي من وسائل الإعلام المعتبرة عن المؤتمر المذكور، أو ناقش الإعلان، ونقل ردود أفعال الجمهورين، العربي والإسلامي عنه. أمر معيب ومحبط برأيي انغماس الإعلام العربي بالرث والتافه والنهليستي والعدمي والمظلم والدموي-العنفي والسخيف-السطحي والجدالي-الصدامي من الأمور أكثر بكثير من حدثٍ فكري وإنساني نوعي من مستوى إعلان مراكش. ربما لأنَّ ما أنتجه اللقاء لا ينضوي تحت تصنيف "البضاعة" الممكنة البيع في سوق عكاظ الإعلام العربي، ولا يمكن فرض ألعاب التسويف والتسطيح والأدلجة لهذا السوق عليه. مع أن العالم العربي والأقليات الدينية فيه أحوج ما تكون للاطلاع عليه وبناء أمل عيش في ضوء وثيقةٍ، مثل إعلان مراكش. تتعلق الخاطرة الثانية بالروح والتوجه اللذيْن أنتجا كلمات الإعلان. تعود مفردات الإعلان إلى الفكر والخطاب الأخلاقيين والإنسيين لرسالة النبي محمد، ولنصوص القرآن الكريم، وتدع جانباً الميول العقائدية والدوغمائية التي تقسم الوجود إلى "إيمان - كفر"، "أكثرية - أقلية"، "أنا - آخر". ينحو الإعلان في بنوده في الحديث عن "جميع البشر"، "الإنسان"، "بني البشر"، وتجذرها في إعطاء المركزية لقيم "حرية الاختيار"، "الأخوة في الإنسانية"، "العدل"، "السلم"، "الرحمة"، "البر بالآخرين"، "إيثار الآخر على النفس"، "الوفاء" و"التعايش". لطالما شعر أفراد الأقليات الدينية في العالم العربي بنوع من عدم الأمان من التعاطي معهم، من منظور الأبعاد التشريعية والفقهية الصرفة، وجعلها مرجعية على حساب الأبعاد الأخلاقية والإنسية العميقة في خطاب الرسول محمد وحياته والنص القرآني. يبدو أنَّ الإعلان ينتبه لهذه المسألة التاريخية، فيعمد إلى التركيز على الأخلاقي والإنسي، واعتباره قاعدة الانطلاق ومن دون مواربة. وفي هذا الاختيار، تبصر عميق، لا للفكر القرآني الأصيل (المشبع بالبعدين الأخلاقي والإنسي) فقط، ولكن أيضاً للتداعيات السلبية التي نتجت في مراحل تاريخية معينة عن تغليب النفاذ التشريعي الفقهي العقائدي على النفاذ الأخلاقي الإنسي، الآنف الذكر في تاريخ علاقة الإسلام بالمسيحية، على سبيل المثال، وفي تاريخ علاقتهما في العالم المشرقي العربي، على سبيل التحديد. يسير الإعلان المذكور منهجياً من اعتبار النفاذين، الأخلاقي والإنسي، قاعدة الانطلاق (الباب الأول)، ومن ثم طرح وثيقة المدينة نموذجاً نصياً تاريخياً دافعاً ومنظماً لهذا الانطلاق المنهجي (الباب الثاني)، وصولاً إلى إعادة التقييم والتقويم المنهجية لآليات توظيف المنطق التشريعي، واستخدامه وسياسات تطبيقه، والتعامل مع طبيعته، كمحتوى وكمفهوم في قلب السياق الديني والفكري الإسلاميين (الباب الثالث). ويعكس هذا الأمر نوعاً من أنواع الاستعداد للقيام بعملية نقد-ذاتي عميقة وجريئة، وجعل نقد الذات نقطة انطلاق نحو الآخر. الخاطرة الثالثة، أخيراً، أن الإعلان يلامس، مباشرة وبجرأة، لب الأبعاد الحياتية والمجتمعية
في السطور التالية خواطر مبدئية، طرأت على ذهني في أثناء استمتاعي بقراءة إعلان مراكش الثمين، كقارئ ينتمي لأحد تلك الأقليات الدينية (المسيحية المشرقية) في العالم الإسلامي-العربي. أول خاطرة تتعلق بالإهمال وعدم الاكتراث الفاضحيْن والمذهليْن وغير المفهومين إطلاقاً الذي لقيه ذلك الإعلان في أوساط العالم العربي الإعلامية بأنواعها وأشكالها كافة. بالكاد تحدثت أي من وسائل الإعلام المعتبرة عن المؤتمر المذكور، أو ناقش الإعلان، ونقل ردود أفعال الجمهورين، العربي والإسلامي عنه. أمر معيب ومحبط برأيي انغماس الإعلام العربي بالرث والتافه والنهليستي والعدمي والمظلم والدموي-العنفي والسخيف-السطحي والجدالي-الصدامي من الأمور أكثر بكثير من حدثٍ فكري وإنساني نوعي من مستوى إعلان مراكش. ربما لأنَّ ما أنتجه اللقاء لا ينضوي تحت تصنيف "البضاعة" الممكنة البيع في سوق عكاظ الإعلام العربي، ولا يمكن فرض ألعاب التسويف والتسطيح والأدلجة لهذا السوق عليه. مع أن العالم العربي والأقليات الدينية فيه أحوج ما تكون للاطلاع عليه وبناء أمل عيش في ضوء وثيقةٍ، مثل إعلان مراكش. تتعلق الخاطرة الثانية بالروح والتوجه اللذيْن أنتجا كلمات الإعلان. تعود مفردات الإعلان إلى الفكر والخطاب الأخلاقيين والإنسيين لرسالة النبي محمد، ولنصوص القرآن الكريم، وتدع جانباً الميول العقائدية والدوغمائية التي تقسم الوجود إلى "إيمان - كفر"، "أكثرية - أقلية"، "أنا - آخر". ينحو الإعلان في بنوده في الحديث عن "جميع البشر"، "الإنسان"، "بني البشر"، وتجذرها في إعطاء المركزية لقيم "حرية الاختيار"، "الأخوة في الإنسانية"، "العدل"، "السلم"، "الرحمة"، "البر بالآخرين"، "إيثار الآخر على النفس"، "الوفاء" و"التعايش". لطالما شعر أفراد الأقليات الدينية في العالم العربي بنوع من عدم الأمان من التعاطي معهم، من منظور الأبعاد التشريعية والفقهية الصرفة، وجعلها مرجعية على حساب الأبعاد الأخلاقية والإنسية العميقة في خطاب الرسول محمد وحياته والنص القرآني. يبدو أنَّ الإعلان ينتبه لهذه المسألة التاريخية، فيعمد إلى التركيز على الأخلاقي والإنسي، واعتباره قاعدة الانطلاق ومن دون مواربة. وفي هذا الاختيار، تبصر عميق، لا للفكر القرآني الأصيل (المشبع بالبعدين الأخلاقي والإنسي) فقط، ولكن أيضاً للتداعيات السلبية التي نتجت في مراحل تاريخية معينة عن تغليب النفاذ التشريعي الفقهي العقائدي على النفاذ الأخلاقي الإنسي، الآنف الذكر في تاريخ علاقة الإسلام بالمسيحية، على سبيل المثال، وفي تاريخ علاقتهما في العالم المشرقي العربي، على سبيل التحديد. يسير الإعلان المذكور منهجياً من اعتبار النفاذين، الأخلاقي والإنسي، قاعدة الانطلاق (الباب الأول)، ومن ثم طرح وثيقة المدينة نموذجاً نصياً تاريخياً دافعاً ومنظماً لهذا الانطلاق المنهجي (الباب الثاني)، وصولاً إلى إعادة التقييم والتقويم المنهجية لآليات توظيف المنطق التشريعي، واستخدامه وسياسات تطبيقه، والتعامل مع طبيعته، كمحتوى وكمفهوم في قلب السياق الديني والفكري الإسلاميين (الباب الثالث). ويعكس هذا الأمر نوعاً من أنواع الاستعداد للقيام بعملية نقد-ذاتي عميقة وجريئة، وجعل نقد الذات نقطة انطلاق نحو الآخر. الخاطرة الثالثة، أخيراً، أن الإعلان يلامس، مباشرة وبجرأة، لب الأبعاد الحياتية والمجتمعية
التي من شأنها أن تحول الأفكار المثالية إلى أفعال وسياسات مجتمعية عامة، تصنع فرقاً في حياة الأقليات الدينية على الأرض. يدعو الإعلان إلى تأصيل مبدأ المواطنة، وإعادة تأليف المناهج الدراسية التربوية، وتحقيق المواطنة التعاقدية، وتأسيس حراك ثقافي وفكري مجتمعي، يدافع عن الأقليات، ومواجهة كل أشكال الازدراء والإهانة، والأهم من هذا كله، رفض استخدام الخطاب الديني في تبرير أعمال انتهاك حقوق الأقليات. كل تلك الجوانب تهم حياة الأقليات الدينية، لأنَّ التوظيف الدوغمائي والتصنيفي والتنزيلي لمناحي العيش المذكورة في خدمة مشروع تديني بحد ذاته حتى هذه الساعة في العالم العربي يدفع الأقليات غير المسلمة للخوف وعدم الأمان في سياق عيشهم في عالم غالبيته مسلمة. الحل ينبع في تغيير الممارسات وليس الخطاب فقط. هذا ما يعترف به الإعلان بجرأة ومن دون مواربة، انطلاقاً من فهمه حقيقة أن "وثيقة المدينة" لم تكن في العمق "نصاً" و"تشريعاً"، بل كانت منظومة "عيش" وآلية "وجود". لا شك في أن الإعلان (كأي إعلان من هذا النوع) ليس بالنص الكامل والمعصوم من الخطأ أو النقص، إذ لا يوجد أي نص من هذا النوع في تاريخ الإنسانية. ولا شك في أن هناك جوانب ومصطلحات ومفاهيم كثيرة مستخدمة في النص تحتاج إلى توضيح وتفكيك ودراسة، سواء في ضوء محتوى "وثيقة المدينة" أو في ضوء الخطاب الهرمنيوتيكي المعاصر. وما يقوله عن تلك المصطلحات والمفردات. أكتب تلك الخواطر في دعوة صادقة وقوية إلى الأقليات الدينية كافة في المشرق العربي، لكي تتلقف وبإيجابية واهتمام إعلان مراكش وتدرسه وتمحص فيه، ومن ثم تعمل على إيجاد ساحات حوار ونقاش ودراسة مع المسلمين العرب حوله وعنه، في لقاءات ومؤتمرات ونشاطات، لا تكتفي فقط بلقاء رؤساء الأديان والطوائف على المستوى البروتوكولي الرسمي، بل تعمل على إيجاد شبكات عمل وحوار وصناعة استراتيجيات على المستويات الثقافية والأكاديمية والشعبية والشابة. من دون هذا، سيبقى الإعلان مجرد نص آخر منسي، غير معروف، لأنه لم يحقق مكسباً للتعكيظ (من عكاظ) الإعلامي
نجيب جورج عوض موقع العربي الجديد 17 فبراير 2016
.
تعليقات
إرسال تعليق